عجباً أن لا نلتفت إلى الخطر المحدق بنا ! وإلى الآيات والعلامات الدالة على قرب القيامة ، ووجود آخر الزمان ! مع أن الناس قد شغلوا بأمورٍ أخرى من هذا في شأن بعض الصفات والأوصاف والمعارك وغيرها ، ولم يلتفتوا إلى المعاني .. فضياع الأمانة دلالةٌ من دلالات آخر الزمان ، كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق .. عجباً لنا ونحن لا نلتفت إلى هذا !
قال ابن بطالٍ في شرح الحديث : " إن الأئمة قد ائتمنهم الله على عباده ، وفرض عليهم النصيحة لهم ، فينبغي لهم تولية أهل الدين ، فإذا قلدوا أهل غير الدين فقد ضيعوا الأمانة التي قلدهم الله إياها " .
وروى البخاري في صحيحة من حديث حذيفة رضي الله عنه في شأن الأمانة وضياعها وغيابها .. وهو حديثٌ طويلٌ جاء فيه : ( ... فيصبح الناس يتبايعون ، فلا يكاد أحدٌ يؤدي الأمانة حتى يقال إن في بني فلان رجلاً أميناً ، ويقال للرجل : ما أظرفه ! ما أعقله ! ما أجلده ! وليس في قلبه مثقال حبة خردلٍ من إيمان ) .
أليس مثل هذا الوصف يصدق في أحوال كثيرٍ وكثيرٍ من بلادنا ومجتمعاتنا الإسلامية ألسنا اليوم ، نتبايع فلا يكاد أحدٌ يأمن أحداً في وفائه وأمانته وصدقه وبره وإنصافه .. ألسنا اليوم قد نبحث إلى الأمناء فلا نكاد نحصي إلا الواحدة أو الاثنين في الفئام من الناس ، أو في القبيلة ، أو في القوم .. أليس هذا الذي يقولها النبي صلى الله عليه وسلم واقعاً في مدح من ليس في قلبه مثقال حبة خردلٍ من إيمان ، قد ضيع الأمانة ، وأخذ حقوق الناس ، وانتهب أموالهم ، واستباح ما حرم عليه من حقوقهم ، وضيّع أماناتهم .. ومع ذلك هو المشار إليه بالبنان ، الممدوح بعظيم الصفات على كل لسان ! أليس ذلك دليلاً على خللٍ كبيرٍ في الإيمان ، لا يخص أفراداً بأعيانهم ، بل يعمّ أحوالنا ومجتمعاتنا إلا ما رحم الله ، ومن رحم الله نسأل الله عز وجل أن يرحمنا ..
في هذا الحديث قال ابن التين : " الأمانة كل ما يخفى ولا يعلمه إلا الله ، الآخذ للرشوة ، والقابل للهدية المغموسة بالحرام ، يحتاط لنفسه ، ويجعل الأمر في أشد صور الخفاء ، ولا يجعل هناك وثيقةً تدينه ، ويحسب لكل قضية حسابها ، ويضيع حساب القضية الأعظم ، وهو أن الله مطلع عليه ، وعالمٌ به ، وكاتبٌ عليه كل صغيرةٍ وكبيرةٍ من أقواله وأعماله .
ورسول الهدى صلى الله عليه وسلم يقول : ( من ظلم مسلمًا قيد شبر من الأرض طُوِّقهُ يوم القيامة من سبع أراضين ) .
ويقول عليه الصلاة والسلام : ( إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو مما أسمع – بمعنى أن يقدم بيناتٍ ، ويقدم أقوالاً يكون الحكم فيها لصالحه وهو على غير حق - فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من نار فليأخذ أو ليدع ) .
كل ريالٍ تأخذه قطعةٌ من جهنم ، إن راقك ذلك وإن قبلت به فاستكثر ؛ فإنما تستكثر - والعياذ بالله - سيئاتٍ مضاعفة ، وإنما تستكثر عذاباً منتظراً .. نسأل الله عز وجل السلامة .
كم في واقع حياتنا وفي واقع حياة كل فردٍ منا شبهاتٍ في معاملاته المالية .. هل توقف عندها ، وتحرّى فيها ؟ هل راقب الله جل وعلا ، فترك عرض الدنيا وزينتها وزخرفها إيثاراً للآخرة الأبقى والأعظم جزاءاً وثواباً ؟ أم أن الإيمان قد ضعف حتى صار أمر الآخرة ونعيمها نسياً منسياً ! وأمر الدنيا وزخرفها هو الذي ملأ القلوب والعقول والأبصار ؛ فلا تسمع إلا ما يُرغّب فيها ، ولا تقول إلا ما يُؤدّي إليها ، ولا ترغب إلا فيما يستزيد منها !
عجباً لنا ! وكأن ذلك في حسّنا ليس له صلةٌ بإيماننا ، ولا بمراتبنا عند ربنا .. وقد نكون في الصفوف الأولى في المساجد ، وقد نُدمنُ شيئاً من تلاوة القرآن .. وكل ذلك خيرٌ ، لكن ذاك الذي يجعلنا في أمر المعاملات ، وتمحيص التوجهات ، ومخالفة الآراء والأهواء والشهوات ، ومعارضة المغريات والملذات .. ذلكم هو أثر الإيمان الحق الذي يذكر لنا ابن العربي في شأنه أمراً عجيباً ، فيقول : " الأعمال السيئة لا تزال تضعف الإيمان ، حتى إذا دناها الضعف لم يبقى إلا أثر الإيمان ، وهو التلفظ باللسان ، والاعتقاد الضعيف في ظاهر القلب " .
وهذا من فقه علمائنا - رحمهم الله - ولذلك قال بعض أهل العلم : " الأمانة هي عين الإيمان " ؛ ولذلك عين الإيمان إذا ضعفت الأمانة فقد ضعف الإيمان ؛ كما ذكر أهل العلم .
وهذا حديثٌ آخر من الأحاديث العظيمة ، رواه مسلمٌ في صحيحه ، من حديث حذيفة - وهو مما أحسب أنه لا يدرج على ألسنة الناس ، ولا يكاد يحفظه كثيرٌ منهم - وهو في حديث الشفاعة ، وفي حديث الفصل بين الناس يوم القيامة ، وفي أوله طولٌ في ذهاب الناس إلى آدم وإلى إبراهيم وإلى موسى عليهم السلام جميعاً ، ثم انتهاؤهم إلى سيد الخلق محمداً صلى الله عليه وسلم ، فيقوم إلى ربه ومولاه سبحانه وتعالى .. قال حذيفة في حديثه ، في شأن استفتاح الجنة : ( فيأتون محمداً صلى الله عليه وسلم ، فيستأذن فيؤذن له ، وترسل الأمانة والرحم ، فتقومان على جنبتي الصراط ) ؛ أي على جانبيه .
ثم ذكر بقية الحديث : ( فمن الناس من يمرّ كالبرق ، ومنهم من يمر كالريح ، ومنهم من يمرّ كالطير - ثم قال في آخر الحديث - ومنهم من لا يمضي إلا زحفاً ) .
قال النووي رحمه الله ، في شأن كون الأمانة والرحم على جنبتي الصراط : " لعظم أمرهما ، وكبر موقعهما ، فيصوران مشخصتين على الصفة التي يريدها الله " .
ونقل عن صاحب التحرير قوله - وفي الكلام اختصارٌ - : " والسامع فهم أنهما تقومان أي في هذا المقام لتطالبا كل من يريد الجواز بحقهما " كل من يريد أن يمضي على الصراط ، تأتيه الأمانة أولاً فتطالب بحقها ، والرحم فتطالب بحقها ؛ فإن كان مؤدياً لحقهما كان من أسباب سرعة جوازه على الصراط ..
فالأمانة المضيعة اليوم تلقاك يوم القيامة على الصراط .. فهل أنت قادرٌ يومها على أن تجوز الصراط وقد فرطّت في الأمانة وخنتها ، وضيعت إيمانك وأضعفته ، وأذهبت أثره وجعلته وراء ظهرك ! أليس كل هذا مما جاء في كتاب الله ، أو مما ورد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ألسنا نذكر ذلك الموقف العجيب الفريد يوم فتح الله على المؤمنين والمسلمين في معركة القادسية ، على يد سعد بن أبي وقاص ، ولما انتهى الفتح أخذ سعدٌ ما في إيوان كسرى - أي مكان قصره وملكه من الذهب والجواهر ، وتاج كسرى المرصع بكل ما هو غالٍ وثمين - فجعل في أشولة وأعطاها لرجلٍ من عرض المسلمين لم يذكر التاريخ اسمه ، ولم يعرف الناس نسبه ، وأمره أن يمضي إلى المدينة من ذلك المكان البعيد ليبلّغ عمر بن الخطاب بخبر الفتح والنصر الإسلامي ، ويعطيه مافي إيوان كسرى من الذهب والفضة والحلي والتاج ، فذهب الأعرابي ولم يقيد عليه ما استلمه ، ولم يكن هناك جردٌ لما سُلّم له ، ولم تكن الأختام موجودةً ، ولم تكن أجهزة الحاسوب راصدةً .. لكن رقابة الله في القلب حية ، وأمانة الإيمان في النفس يقظةٌ مؤثرة .. مضى الأعرابي يجرُّ بعيره على ظهره ، ثروةٌ يطيش لأجلها ولأجل عشرها عقول كثيراً من ضعاف الإيمان ، لم ينظر إليها ولم يلتفت إليها ، وربما ما علم بها ! ووصل إلى المدينة ووقف بين يدي الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه قائلاً : إن سعداً يقرئك السلام ، ويبشرك بنصر الله لأهل الإسلام ، وهذا تاج كسرى وإيوانه . فطأطأ عمر رأسه متأثراً ، قائلاً : " إن قوماً أدوا هذا لأمناء .. إن قوماً أدوا هذا لأمناء " فجاء التعقيب - كما ورد في بعض روايات التاريخ - : " عففت فعفوا ، ولو رتعت لرتعوا " .
كان عمر رضي الله عنهم يحاسب نفسه وأهله على أقل القليل .
ويوم تولى أبو بكر الصديق رضي الله عنه الخلافة مضى من يومه ، يريد أن يعمل ويكتسب في تجارته ، قالوا : قد وليت أمرنا فافرغ لنا ، قال : قوتي وقوت عيالي ! قالوا : نفرض لك من بيت مال المسلمين فقدر لنفسه أقل القليل من طعامٍ وشرابٍ فحسب ، وليس خزائن مفتوحةً ليس لها حصرٌ ولا عدّ ، وليس مالاً سائباً لا يسأل عن أحد ! بل كما كان فعله وفعل غيره من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في مراقبتهم لله ، وأدائهم للأمانة .. إن صوراً من تضييع الإيمان وضعفه تتجلى في حياتنا كثيراً ، وتتجلى في ضعف الخوف من الله ، وقلة مراقبة الله ، وضعف الحياء من الله ، وضعف الأمانة في أداء حقوق الله وحقوق عباد الله .. فالله الله في إيمانكم ؛ فإنه ليس محصوراً في صلاتكم وزكاتكم وتلاوتكم ودعائكم ، بل هو في سائر جوانب حياتكم ..